في هذه المقابلة للوضع يتكلم علي الرجال مع خالد فهمي عن الثورات في مصر عبر التاريخ.
خالد فهمي
إستاذ في قسم التاريخ في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وأستاذ زائر في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأمريكية. حصل على دكتوراه في التاريخ من جامعة أكسفورد عام 1993. دّرس في جامعة برينستون بين عامي 1994 و 1999، وعمل أستاذا للدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك 1999 و 2010، كما عمل بين عامي 2000 و 2001 في المركز الدولي للدراسات المتقدمة التابع للجامعة نفسها، كذلك عمل أستاذا ً زائرا ً في جامعة كولومبيا بين عامي 2014 و 2015 . وهو أحد أبرز المختصين في دراسات الشرق الأوسط وعضو في مؤسسة دراسات الشرق الأوسط MESA.
.علي الرجّال: لنبدأ من اللحظة الحالية، لنحاول فهم ما حصل خلال السنوات الخمس الماضية أو ربما نذهب أبعد من ذلك
خالد فهمي: نشهد بوضوح ثورة قوية مضادة وناجحة يقودها عبد الفتاح السيسي بمساعدة قطاعات كبيرة من المجتمع ومن الدولة ومن المحيط الدولي في منطقتنا، حتى أبعد من المنطقة، هذه الثورة المضادة تعي ما تقوم به ولكن في رأيي تخطئ في تشخيص اللحظة، وبالتالي من أجل أن نفهم اللحظة التي نمر بها يجب أن نفهم لحظة الثورة، ماذا كانت طبيعتها ؟ وثورة على ماذا؟ لا أظن أن الثورة المضادّة أتت من هنا، وأنا كقارئ لتاريخ مصر الحديث وكدارس لتاريخ المنطقة وليس مصر فقط، أرى أن ما تشهده المنطقة الآن، في الخمس سنين الماضية، ليس وليد صدفة ولا هو طبعا وليد مقامرة، نحن نشهد ثورة أو انهياراً لمنظومة النظام العربي الحديث أو لنظام الدولة العربي الحديث. والنظام الذي وضع بعد انهيار الدولة العثمانية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى. نحن نشهد لحظة مماثلة للتي أعقبت الحرب العالمية الأولى وميلاد النظام العربي الحديث. هذا النظام، بما فيه مصر، شكل أساساً من قوى خارجية هي فرنسا وإنكلترا تحديداً، ويعكس مصالح قوى أجنبية، لكن بالتعاون مع قوى داخلية، مع ملوك وأمراء وسلاطين وبشوات وعائلات كبيرة ورؤساء لاحقاً كان لهم مصلحة في إبقاء هذا النظام، إنما النظام العربي الحديث، كما النظام المصري والدولة المصرية، يعاني نتيجة ظروف نشأته من خلل بنيوي أساسي وهو أزمة شرعية هيكلية، وهذه الدول لا تعكس مصالح سكانها ولا مجتمعاتها بشكل أساسي، وبالتالي الدولة المصرية الحديثة. يمكن أن نعود للقرن التاسع عشر لكن سأبدأ من ثورة 19. نحن، أي الشعب المصري، قمنا بثورة لأن النظام الذي كان موجوداً لم يكن يعكس مصالح الناس الحقيقية لا اقتصادياً ولا ثقافياً ولا سياسياً. الثورة حققت قدراً من المطالب لكننا لم نعرف أن نؤسس نظاماً سياسياً يحقق مطالب الناس من العدالة الاجتماعية والحياة الدستورية السليمة والحياه السياسية السليمة التي تسمح لتناقضات المجتمع أن تُحل بشكل سلمي، ولهذا السبب كان لدينا أزمة سياسية طاحنة طول الفترة التي نقول عنها "حرب ليبرالية" لحد انقلاب يوليو 52 والذي هو انعكاس لهذه الأزمات والخلل الهيكلي الكامن داخل تلابيب الدولة المصرية الحديثة موجود وينتقل من سنة إلى الثانية ومن جيل إلى جيل، كنا نعتقد أن 67 ستقضي على هذا الخلل، جاءت 67 ولم تقض عليه والنظام بقي مستمراً لحد 28 يناير 2011 يترنح مكانه. نحن لا نشهد ثورة نتيجة حركة فيسبوكية ظهرت من قبل بعض الشباب الطائش ولا نشهد ثورة نتيجة مؤامرات أجنبية وخارجية، نحن نشهد موجة من موجات الثورات المستمرة، والثورات لم تأتِ بسبب أن شعبنا أهوج، أنا أعتبر نفسي واحداً من الثوار لمجرد أنني أنزل إلى الشارع، وأنا أستاذ جامعة، لا ثورجي ولا شيء، أنا أريد أن أعمل في منزلي وأنتج معرفة وأدرس طلابي وليس لدي خلفية تدفعني للنزول إلى الشارع، لكنني مثل الملايين غيري أشعر أن هناك ظلماً في طريقة إدارة هذه الدولة وأظن أنّ الثورة في حقيقتها وصلبها ناتجة عن هذا، وعن أنّ هناك قطاعات كبيرة جدّاً من المجتمع مستبعدة ومهمشة ومقموعة سياسيّاً واقتصادياً وحقوقياً. اقتصاديا في الدرجة الأولى، مثال صغير على ذلك: حسب إحصائيات الأمم المتحدة للتنمية فإن متوسط طول الأطفال في مصر بين 6 أشهر وثلاثة سنين انخفض في السنين السبع السابقة للثورة وهذه الظاهرة تُعرف بالتقزّم وهي انعكاس لسوء التغذية، يعني أن المصريين قصروا، حرفيا ليس مجازاً! في حين أننا نرى ثروات وهدر أموال لم تشهده مصر في تاريخها، هناك ثروات باهظة وملايين وبلايين من الدولارات والجنيهات تذهب لناس ولناس لا.
البلد غني لكن المصرين فقراء وأظن أنّ الناس يجب أن لا يقرؤوا هذه البيانات ليعرفوا أن هناك خللاً في طريقة توزيع الثروات في البلد، الثورة في حقيقتها هي انعكاس لهذه الأزمات وليس سبباً لها.
هنا يأتي التشخيص الخاطئ للثورة المضادة. السيسي والحكومة وقطاعات كبيرة من المجتمع التي تسانده، لأسباب كثيرة، شخصوا الموضوع بطريقة خاطئة. هناك علاقة بين الثورات والأزمات، لكن هذه العلاقة السببية معكوسة من وجهة نظر الثورة المضادة، فالثورة برأيي نتيجة الأزمات وليست سبباً لها، أما السيسي فيقول إنه أتى ليقضي على المشاكل، على الثورة، لأن الثورة هي التي أدّت إلى المشاكل، وهذا التشخيص ليس خطأ أكاديمياً فقط بل هو تشخيص خطير جداً لأنه يغفل المشاكل الحقيقية لهذا المجتمع. والمجتمع يعاني من مشاكل ويجب حل هذه المشاكل، إمّا أن نحلها سياسياً وإلّا فإنها ستحلّ بشكل عنيف. نحن لا نريد أن نقوم بثورة ولا حتى نريد أن ننزل إلى الشارع ولا نريد تدمير البلد، إنما نريد أن نُقَوّم طريقة إدارة البلد ونجعل مؤسسات الدولة تعكس مطامع ومصالح وأغراض وأحلام القطاعات الأكبر من سكّان هذا البلد وليس فئة صغيرة فقط.
علي الرجّال: أود أن أعرف ما هي نقطة الصراع بين لحظة عبد الناصر ولحظة السيسي؟
خالد فهمي: السيسي يعرض حلّاً أمنيّاً، والذي يعرضه ليس الأمل ولا المستقبل إنّما الخوف، والخوف شعور قوي جداً ولا يجب أبداً الاستهانه به. الخوف يمكنه أن يحرك أناساً ويشل أناساً آخرين. الخوف، أي خطاب الخوف، الذي يقوم به النظام الحالي في مصر لا يستخدم في مصر فقط بل في المنطقة كلها، وأنا أعرف أن خطاب الخوف هنا في أمريكا يمكنه أن يشل الكونغرس بعظمته مثلاً فهو قد شلّ بعد 11 سبتمبر حين سلم المجتمع الأميركي، ممثلاً بقياداته البرلمانية، صلاحيات كبيرة للقطاع الأمني، ونحن
نرى أن سنودن اليوم يحاول التمرد على هذا. أنا لا أقلل أبداً من أهمية الخوف لكن أحاول القول إنّ هذا هو المطروح في الوقت الحالي ولا طرح لا لأمل ولا لتطلعات ولا لمستقبل ولا لأحلام وهذا اختلاف كبير مع عبد الناصر.
علي الرجّال: هنا يجب أن نسأل ماذا يحاول السيسي أن يبني؟ نحن أمام ماذا تحديداً، بعيداً عن الخوف؟ ومن أين اكتسب هذه الشعبية الكبيرة؟ نحن أمام رئيس أخذ شرعية ثلاث مرات في أقل من سنتين، شرعية التفويض ثم شرعية الانتخابات الرئاسية ثم شرعية قناة السويس حين طلب من الناس النزول لإعطائه الفلوس من أجل أن يبني قناة السويس الجديدة، الناس نزلت. نحن أمام ثلاثة مشاهد أكدت شرعية هذا الرجل، وحتى الآن لا يبدو واضحاً ما الذي يحاول أن يبنيه تحديداً؟
خالد فهمي: لو سألت أنصار السيسي لماذا تناصرونه؟ لماذا فوضتموه؟ سيجييبونك بأحد إجابتين، إما أنهم فعلوا ذلك لعدم وجود بديل أو لأنهم خائفون ويريدون تفويضه كي يحميهم من مصير سوريا وليبيا والعراق.
أنا شخصياً خائف على مستقبل البلد، لكن هذا الخوف لا يشلني إنما يحتم علي أن أسأل أسئلة نقدية
أنا مقتنع معك تماما أنّ السيسي يملك شعبية لدى قطاعات كبيرة جداً من المجتمع وهو أخذ ثلاث تفويضات لكننا رأينا في الشهور الفائتة كيف أن مطالبتة الناس بالنزول الى الانتخابات البرلمانية وصلت إلى عدم الإقبال، مثلما كان يطمح أو يريد للاستحقاق الثالث مثلما قيل عن الانتخابات. أنا لا أقلل ولا أشك في شعبية السيسي لكن على ماذا تُبنى شعبيته؟ هل هي شعبية مبنية على إنجازات حقيقية؟ أنا لا أعتقد ذلك. هل هي شعبية مبنية على وعود موضوعية عقلانية لمستقبل يرى الناس أنفسهم فيه؟ "مصر قد الدنيا" شعار جميل لكن ماذا يعني تحديداً؟ ما هو تخيله عن حقوق الفلاحين؟ ما هو تخيله عن أزمة الطاقة التي تعاني وستعاني مصر منها؟ ما هو تخيله عن مستقبل القطاع الصناعي في مصر؟ ما هو الدور الذي يريد أن يعطيه لرجال الأعمال؟ أي ما هو تخيله عن حلول مسألة القطاع التعليمي في مصر؟ ما هو تخيله عن مأساة القطاع الصحي وعدم وجود نظام تأمين صحي لملايين من المصريين؟ نحن ننتظر من رئيسنا أن يكون لديه ولو خطوط عريضة تشبك هذه المتطلبات مع بعضها. السيسي لا يتدخل في هذه الأمور وعندما طولب بها في الانتخابات النيابية كان ردّه أنّ لا تطالبوا بها لأن هذا الكلام خطر، وعندما يلمح لحلول ومشاريع يقول إنّه لا يستطيع الإفصاح عنها بسبب أهل الشر. لا شك لدي أنه أمين وصادق ولديه توجسات أمنية وأنا عندي أيضا توجسات لكن لا أريد من هذه التوجسات أن تمنعني من التفكيرأو تمنعني من الحلم. أنا من حقي أن أحلم بمستقبل مزدهر لشعبي ولأهلي ومن حقي أن أطالب رئيس دولتي أن يقول لي بشكل محدد، ليس بالأرقام إن كان هذا كثيراً الآن، إنما أعطني تخيلاً عامّاً، بينما التخيل العام الموجود هو تخيل أمني. لا أريد أن أقلل من شعبية السيسي لكن الناس قلقون لأسباب مشروعة وعميقة ومهمة، الناس قلقون نتيجة ما رأوه في سنين الإخوان، أي سنة حكم الإخوان، الناس قلقون من الذي يحصل في الجوار في ليبيا والسودان وغزة وسوريا والعراق وهذه الدول ليست ببعيدة عنا، هذه الدول القريبة جداً منا تنهار والناس قلقون من انهيار المنظومة كلها في العالم العربي كما شهدنا سابقاً ومن عدم معرفة ما سيحل محلها. هزيمة 67 المريرة التي نعاني منها إلى اليوم كانت نتيجة لمصادرة المجال
.العام
علي الرجّال: سأنتقل الى الحوادث الأخيرة التي شهدناها والمرتبطة باحتجاز الصحافيين والباحثين أمثال حسام بهجت واسماعيل الإسكندراني. أنت كنت تركز في أعمالك المختلفة، الكتب أو الأوراق البحثية، على نقطة احتكار الأمن للمعرفة وأن الأجهزة الأمنية لا تصادر فقط الحياة السياسية بل تسيطر أيضاً على حق الوصول إلى المعلومة؟
خالد فهمي: الأحداث المؤسفة الأخيرة- ليس فقط اعتقال هاتين الشخصيتين إذ أنّ لدينا أعداداً كبيرة من الصحافيين المحتجزين بأعذار واهية جدا بينهم مصورون صحافيون- هذه الأحداث هي النتاج الطبيعي لهيمنة القطاع الأمني على مجمل المجال العام وإيلاء الإعلام الأهمية القصوى، فالنظام يرى أن دور الإعلام هو التوجيه والإرشاد وليس طرح أسئلة عميقة وحساسة عمّا يحصل في الوقت الحاضر. سأتكلّم هنا عن نقطتين، الأولى: حول الشخصيتين اللتين ذكرتهما، حسام بهجت واسماعيل الإسكندراني، كلاهما يكتب كثيراً حول تاريخ القاهرة وتاريخ الإسكندرية والتاريخ الاجتماعي لكنّ الذي أثار الانتباه هو تناولهم أسئلة تتعلق بالجيش وطرح أسئلة مهمة، أراها ضرورية ويجب أن تطرح. تلك أسئلة صعبة وحتى محرجة وخطيرة. حسام بهجت مثلا يتساءل عن انقلاب عسكري حصل في البلد، أو محاولة انقلاب عسكري قُدّم المسئولون لمحاكمة علنية حضرها حسام بهجت. هل من حقّ المجتمع أن يعرف هذه الأحداث أم ليس من حقه معرفتها؟ أنا أرى أنّ هذا من حقّه فهذا موضوع جدل وموضوع خطير جداً ومن حق الناس أن تعرف أسباب التمرد وهوية المتمردين. مثال آخر على المواضيع الخطيرة هو أن يتكلم اسماعيل الإسكندراني عن أسلوب الجيش في التعامل مع الإرهاب في سينا وألّا يكتفي بالبيانات التي تصدر عن الجيش إنّما يذهب إلى سيناء ويرى بعينه ويقول أن هناك أشياء خطيرة تحدث. صحيح أنّ الجيش يحارب الإرهابيين لكنه لا يحاربهم بشكل جيد لأن من نتيجة محاربته بالقصف أن ينقلب جزء من المجتمع في سيناء على الجيش نفسه. ليس الموضوع أن أهل سيناء مشكوك في ولائهم، لا أبدا. أهل سيناء هم مصريون لكنّ هناك أشياء خاطئة تحصل تجعل منهم متمردين على الجيش نفسه وهناك شباب نقلوا ولاءهم إلى داعش نتيجة القصف العشوائي الذي يحصل.
.هناك احتمالٌ أن لا يكون هذا الكلام صحيحاً لكن هناك أيضا احتمال أن يكون صحيحاً والمجتمع من حقه أن يعرف.
.علي الرجّال: هناك قطاع كبير من المثقفين والأكاديميين المصريين يرون أن هذه الأسئلة تخص الأمن ويجب أن لا نتكلم بها
خالد فهمي: أنا أعرف ذلك وأدرك أنّ هذا نتيجة لبيئة معلوماتية وإعلامية مترسخة منذ أجيال. ليس الأمن فقط، القطاع الصحي مثلاً لا يتكلم فيه إلّا أطباء، لكن موضوع التأمين الصحي لا يخص الأطباء وحدهم، كلّنا لنا رأي في مسألة الدروس الخصوصية ومأساة التعليم. ليس الحديث عن التعليم حقّ رجال التربية والتعليم وحدهم، كذلك فإنّ الاقتصاد لا يجب أن يبقى حكراً على الاقتصاديين. الحرب كما قيل أهمّ وأكبر من أن تترك للجنرالات. الحرب في النهاية هي موضوع سياسي ويجب أن يسائل المجتمع كلّ هذا. هذه الأسئلة صعبة بالطبع ولا أريد أن أقلل من أهميتها وخطورتها أو أن أقول إنّ كل المجتمعات تسأل هذه الأسئلة بشفافية وحرية، لا طبعاً، هناك حساسيات دائماً. مثلاً هناك مجموعة صغيرة من أربعة ضباط في الجيش الأميركي يعملون في القصف بالطائرات من دون طيار، يوجهونها من أريزونا لتقصف في العراق وأفغانستان وفي سوريا من غير أي اشتباك، هؤلاء الأربعة تمردوا وكتبوا رسالة مفتوحة لباراك أوباما قالوا فيها إنهم ضباط في الجيش يرون أنّ ما يقومون به ضد الدستور وأنّ ولاءهم الأعلى يبقى للدستور رغم ولائهم للجيش وأنّهم يرون أنهم يخالفون الدستور عندما يقتلون مدنيين عزلاً. كل واحد من الأربعة قال إنه قتل أشخاصاً لا يحملون سلاحا وليسوا مقاتلين ولا إرهابيين وصرحوا أنهم ينفذون الاّمر ثمّ لا يقدرون أن يناموا، هذه المشاكل ليست نفسية إنما ما حاولوا قوله هو أننا نخسر الحرب على الإرهاب بينما يحقق الإرهابيون مكاسب من خلال هذه الطريقة لأن مجموعة من الشباب شعروا بالظلم نتيجة القصف العشوائي عندما لم يعرفوا مصير الطائرات وطريقة التعامل معها فلجؤوا إلى المنظمات الإرهابية مثل طالبان والقاعدة أو داعش فبالتالي هذه المنظمات تكسب ولا تخسر نتيجة هذا القصف. بعد هذه الرسالة لأوباما بدأ التحقيق معهم. ما أريد سؤاله هو ما الذي يحرّض هؤلاء؟ ما الذي حرض اسماعيل الإسكندراني على كتابة ما كتبه؟ خوفه على بلده وقلقه على مستقبلها. ما يحرّكه هو الإحساس بالمسؤولية، والأهمّ من ذلك أن ما يحركه هو اليقين بأن السجال العام والنقاش العام وطرح المعلومات، رغم عدم خطورته، يفيد المجتمع والجيش ويفيد الحرب على الإرهاب. هذا ليس بسؤال سهل ولا بديهي وأنا أدرك صعوبة ما يقوم به إسماعيل الاسكندراني وحسام بهجت وغيرهم من الصحافيين الاستقصائيين الجيدين، ما يحاولون القيام به أو قوله هو أنّ الفكرة أو الخبر النقدي أو فتح حوار مجتمعي هوالذي سيربحنا الحرب ضد الإرهاب وليس العكس، ليس الاصطفاف، الاصطفاف في فسطاطين هو خطاب القاعدة وبن لادن وبوش. أمّا الذي يكسبنا هذه الحرب، حرب الأفئدة والقلوب والعقول، هو أن نسأل الأسئلة الصعبة. نحن نقف وراء الجيش لكنّنا نريد أن نعرف كيف يتصرف الجيش ونريد أن نساعده مدركين صعوبة ما يقوم به ونقدر تضحياته. دورنا كصحافيين وكمفكرين هو أن نسأل الأسئلة الصعبة وليس العكس، المجتمع الذي يقفل هو المجتمع الذي يخسر، المجتمع الذي يفشل في أن يسال الأسئلة الصعبة في اللحظات الصعبة هو المجتمع الذي يخسر الحروب. ما الفرق بيننا وبين إنكلترا وأميركا؟ الضباط الأربعة كما قلت معرضون لمحاكمة عسكرية، هم لم يتعرضوا لذلك لكن من الوارد أن توجه لهم اتهامات خطيرة إنما الفرق هو أن المجتمع الأمريكي كما المجتمعات في أوروبا والهند وكوريا واليابان وأميركا اللاتينية المؤمنة بحرية الرأي تقول إن الأجهزة الأمنيّة يجب أن تشك ودورها أن تشك وتسأل أسئلة عديدة وأن تعتبر فلاناً طابوراً خامساً وفلاناً مدفوعاً له. هذا دور جهاز المخابرات ولا أقلّل من أهميّة هذا الدّور. دور جهاز المخابرات أن يشك ويتحرى لكن يجب أن يقابل هذه العقلية المهمة والضرورية للأمن القومي عقلية أخرى تدفع في الاتجاه الآخر، أي اتّجاه الانفتاح وحرية الرأي وحرية التعبير. الأمن القومي يزدهر حين نجد التعادل بين هاتين القوتين: عقلية الأمن التي ترتاب والعقلية البحثية التي لا تخاف من طرح الأسئلة، والمجتمعات في النهاية ستجد التوازن المختلف، كل مجتمع مختلف عن الآخر. أميركا ترسم الحد الفاصل بين هاتين القوتين في مكان محدد بينما إنجلترا ترسمه في مكان ثانٍ وفرنسا ترسمه في مكان ثالث، نحن من حقنا أن ندخل هذا المعترك وأن نقول إنّنا نريد أن نعرف ما هي الحريات التي يجب أن لا نتخطاها وما هي حدود حرية الرأي وما هي حدود التكتم على حرية الرأي. أمّا من يقول لي إنّ كل الأسئلة غير مطروحة وإنّ أجهزة الأمن القومي هي الأجهزة الوحيدة التي لها الحق بالكلام عن الأمن القومي فأجيبه بأنّ هذا الكلام بحد ذاته يهدد الأمن القومي وبأنّ الأمن القومي يزدهر عندما نجد التوازن الصحي والحقيقي والآمن بين محاذير الإفصاح وحرية الرأي، وبالتالي فنحن كمناصرين لحرية الرأي من صحافيين وكتاب وأكاديميين نفعل هذا، أنا صنعتي الكلام وأنا أحاضر بالناس، صنعتي أن أقرأ، صنعتي أن أفكّر، بينما عندما يقال هذا غلط أو ممنوع سينعدم إنتاجنا وهذا ما سيؤثر على المجتمع، وأخيراً أريد القول إنّ هذا هو الفارق الفلسفي بين العقليتين، القطاع الأمني من جهته يرى أن المعلومات تخص الأمن القومي، بمعنى أن المعلومات مثل المعرفة يجب أن يكون عليها رقيب وأن تداول المعلومات خطر ودور الأجهزة الأمنيّة هو ألّا تشجع تداول المعلومات بل على أن تكتنز المعلومات، ما هي الاستخبارات؟ هي محاولة تجميع الأدلة والمعلومات واكتنازها وعدم مشاطرتها مع المجتمع. أنا أحترم هذه العقلية، بمعنى أنني أرى أنّ هذا بالفعل هو دور أيّ جهاز استخبارات، ماذا يبقى من جهاز الاستخبارات إذا أفصح عن معلوماته؟! هذا الجهاز مبني على السرية والتكتم والريبة والشك. هذا دوره الذي يجب أن يقوم به، لكنّ هناك عقلية أخرى ترى أن المعلومات والمعرفة تزدهر عندما يتداولها أكبر قدر ممكن من الناس، عندها يزدهر المجتمع والأمن القومي لهذا المجتمع، عندما يعرف الناس ما يحصل ويستطيعون الوصول إلى المعلومات ليس لتدويرها بل لإنتاج معرفة جديدة ولإنتاج أفكار جديدة وخلق مساحات للتفكير جديدة. هذا لا يأتي عبر الجلوس في المقاهي دون أن يكون هناك أي شيء أقرأه ولا أسمعه ولا أتكلّم فيه بل يأتي من أن أجد عند الجلوس في المقهى محطات إذاعية وإنترنت وقدرة على تداول الأفكار مع زملاء لي وأصدقائي الجالسين معي في المقهى والذين يأتي كلٌّ منهم بحصيلة مختلفة من المعلومات، يزدهر عندما يكون لدي جريدة فيها معلومة دقيقة وصادقة، ويزدهر عندما يوجد كتاب فيه أفكار جديدة مبني بدوره على أرشيف أو معلومات أو وثائق أو بيانات دقيقة. هكذا تزدهر المجتمعات، كيف يزدهر الاقتصاد دون حرية تداول المعلومات؟ حين يؤسس أحدهم مشروعاً اقتصادياً –لا أتحدث عن مشروع الضبعة أو عن مصنع بل عن كشك مثلاً- يجب أن يعرف قيمة الضرائب المتوجبة، وقيمة الكهرباء، كل هذه معلومات. كيف ستزدهر الصحافة من غير معلومات وعندما يبقى على كل سؤال محاذير أمنية؟ الذي أريد أن أقوله هو أن العقلية الأمنية مطلوبة ولا أقلل منها ولا أحتقرها إنّما يجب أن يقابلها عقلية مضادة، عقلية تؤمن بأن إعلاء شعار حرية تداول المعلومات أو حرية الصحافة أو حرية الرأي. هذا ليس كلام باشاوات ولا هو تشدق ببعض شعارات حقوق الإنسان ولا هو تمسح ببعض البيانات الدولية والمواثيق الدولية. هذا شيء فكرنا فيه فلسفياً ونريده لأسباب حقيقية ووجودية، وفي النهاية نريده لا إرضاء لنزوتنا ولا رغبتنا. نحن نريده كي نمارس حقنا كمواطنين نخاف على بلدنا ونريد أن نفيدها بتغلبنا على الخوف وحتى نتغلب على الخوف من خلال الحصول على المعلومات أي أن نعرف عمّا نتكلّم. فللأسف طغيان العقلية الأمنية التي أحترمها وأقدرها وأقدر العاملين فيها لكن لا أقدر ولا أحترم الذي يقول إنّ العقلية الأمنية هي الوحيدة التي يجب أن تكون موجودة! بالإضافة الى لواءات الشرطة الخائفين على البلد يجب أن يكون هناك رجال أعمال ورجال اقتصاد أيضا خائفون على بلدهم ويطالبون وبدل تخوين العاملين في حقوق الإنسان يجب التصرف على اعتبار أن كلامهم مهم جدا من باب الخوف على مستقبل البلد.
علي الرجّال: لنختم بسؤال حول الأجهزة الأمنية،ما هي قراءة حضرتك للمشهد الأخير في الأقصر؟ أحداث الأقصر التي كانت نتيجة تعذيب أحد المواطنين، طلعت شبيب الله يرحمه. أنت قلت في أحد تعليقاتك إن التعذيب في مصر يفرق ومن المهم أن نفهم دوره في تفريق الجمهور. هنا أحب أن أسأل: خلال الشهر الأخير جرت حادثة الأقصر وحادثة الطبيب الصيدلي في الإسماعلية وقد أدت الحادثتان إلى موت اثنين تحت التعذيب. أين تذهب هذه العلاقة بين المواطنين ومؤسسة الداخلية التي كانت تاريخياً في حالة اضطراب دائم طوال الوقت لدرجة أنّها تطرح سؤالاً كبيراً حول علاقة الدولة بالمجتمع في مصر؟
خالد فهمي: أريد أن أقول إنني أعيش الآن في الولايات المتحدة للأسف وأعرف أن مشكلة التعذيب ليست مشكلة يمتاز بها القطاع الأمني في مصر، لا، إنها مشكلة كامنة داخل القطاع الأمني في أي مكان في العالم وهذه كتب عنها مؤلفات مهمة وأنا اشتغلت عليها وكتبت عنها من قبل الثورة بكثير إنّما الفكرة أنني أرى ماذا يحصل في شيكاغو والعنصرية الكامنة داخل أداء الشرطة الأمريكية في جميع المدن الأمريكية، وبالأخص المدن الكبرى التي فيها أقلّيات غير بيضاء وشيكاغو مثال صالح على هذا ونرى ماذا يحصل عندما الشرطة تقتل، ما هو دور الإعلام هنا؟ أن يوضح هذا الشيء، والرأي العام دوره أن يضغط من أجل إيقاف هذه الممارسات، بل التساؤل إن كانت هناك أسباب هيكلية تدفع الضابط الأبيض إلى التصرف بشكل معين؟ هل هناك نمط ما؟ هل هي ظاهرة؟ إذا كانت ظاهرة ما هي الأسباب التي تؤدي إليها وكيف يمكن معالجتها؟ نحن في مصر نسأل هذا السؤال منذ فترة طويلة، من قبل الثورة، وأنا أرى أنّ هذا كان أحد الأسئلة الجوهرية أثناء الثورة ولم تكن صدفة أن ينزل الناس يوم 25 يناير، يوم عيد الشرطة، حتى تقول للشرطة أنت تخطئين. من الخطير على مستقبل البلد، وليس علينا فقط أن يكون هناك قطاع مهم من قطاعات الدولة يعمل دون رقيب أو حسيب بهذا الشكل. كما أن هناك رقابة على البنوك ورقابة على المستشفيات والصيدليات ورقابة على المدارس يجب أن يكون هناك رقابة مجتمعية على قطاع الشرطة. هذا كان السؤال المحوري الذي حاولنا طرحه في ثورة يناير. ما كتبته كان يرتبط بجزء من هذا السجال، وهو جزء يحاول الاستهتار بهذا السؤال، سؤال التعذيب، بالقول إنّه سؤال حقوقي لا يهم سوى قطاعات معينة من المجتمع، هم الأشخاص الذين يُدفع لهم من الخارج وأولئك الذين يرددون كلاماً حقوقياً تعلموه في صربيا أو غيرها، مثلما تقول الدولة في الوقت الحاضر عن كل حركة حقوق الإنسان، وإن المجتمع وبالذات الفقراء ليست هذه قضيتهم، وإنّ هذه قضية أناس مرفهين يتكلمون عن أمور هامشية لا تهم جموع الشعب. الذي أحاول قوله إنّ أغلب ضحايا التعذيب ليسوا السياسيين للأسف. الناس يعتقدون أنهم حين يتكلمون عن التعذيب وتاريخه في مصر فهم يتحدثون عن تعذيب أيّام عبد الناصر. التعذيب أيام عبد الناصر كان موجهاً للسياسيين، سواء الشيوعيين أو الإخوان الذين ذاقوا من التعذيب ما لم يذقه أحد، أمّا التعذيب الحاصل هذه الأيّام لا تأتي أخطاره من أمن الدّولة بل من المباحث الجنائية ومن القضايا العادية، أغلب ضحايا التعذيب الذين نقرأ عنهم هم أشخاص عُذّبوا كي يعترفوا بقضايا سرقة عادية بسيطة لم يقوموا بها، أنا أعرف أنه في طبقتي أنا تحديدا- أتكلّم هنا عن أناس من عائلتي وجيراني في الزمالك- كلنا نعرف أنه حين تسرق سيارة أحدنا أو حين يشك في خادمته سيذهب ليبلغ الشرطة التي ستقبض على جميع حراس البنايات والصفرجية ليضربوا ويعذبوا ويعلقوا على أمل أن يستسلم أحدهم في النهاية ويعترف. هناك تآكل في مهارات البحث الجنائي لدى الشرطة المصرية نتيجة التعذيب، الذي يُستسهل، وأنا كدارس لتاريخ الشرطة المصرية أربأ بقطاع الشرطة عن هذه الممارسات ولا يهون عليّ أن أرى حاله الآن لأنني أعرف كيف كانت هذه الشرطة تحقق في القضايا الجنائية في القرن 19 وأوائل القرن العشرين قبل أن تصل إلى ما هي عليه الآن. لكن المشكلة ليست الاستسهال فقط للأسف بل المشكلة هي الاستعلاء. هناك شك، هو يقين عندي لكنني سأقول إن الأمر ليس محسوماً لدى الكثيرين، هناك شكّ في أنّ قطاع الشرطة، الشرطة الجنائية بالذات، يتعامل مع الشعب وبالأخص الفقراء على أنهم لا يأتون إلا بالكرباج، و هذه العقلية موجودة عند الأطباء والمحامين مثلما هي موجودة عند القضاة وضباط الشرطة، وعند البوليس المدرسين، هناك قناعة أنّ هذا الشعب خانع وذليل لا يستحق غير ضرب الكرباج، أنا طبعاً لا أرى ذلك وأغلب الناس لا يرون ذلك أيضاً، وأغلب الناس يشعرون أنهم يستحقون معاملة أفضل بكثير من هذه المعاملة، والنتيجة في هذا الخلل هي أن التعذيب أصبح ممارسة منهجية وجزءاً من طريقة عمل المباحث الجنائية فما بالك بأمن الدولة التي ترى أن دورها حفظ الأمن، بينما نحن نرى أنه خطر لنسيج المجتمع وأنّ من الخطأ معاملة الشعب بهذه الطريقة وخلق هوة الثقة بين الشعب وقطاع مهم من الشرطة، من منّا يذهب طوعياً إلى قسم شرطة من أجل التبليغ عن شيء؟ كلنا نعرف أننا سوف نهان إذا ذهبنا إلى قسم الشرطة لتقديم شكوى فما إذا دخلناه متهمين؟! نحن نطالب بإلغاء التعذيب أيضاً وهذا ليس شعاراً نطرحة دون تفكير ترديداً لمبادئ حقوق الإنسان. أنا مقتنع بمبادىء حقوق الإنسان ولست أردّدها لأنني أحفظها بل لأنني مقتنع بها وأرى في النهاية أن التعذيب هو الذي يخلق هذا الشعب الذليل ويحوله إلى شعب فاقد الثقة في قياداته ودولته وهذا أخطر شيء سنعاني منه مستقبلاً ونعاني منه في الوقت الحالي، في لحظة مواجهتنا للإرهاب. نحن أمام معركة طويلة مع الإرهاب لا تحسم بضربة قاضية، ليس لديّ أدنى شكّ في أننا سنكسبها في النهاية، لكنها ستحسم بالنقاط وليس بضربة قاضية، وهذا معناه أنها ستأخد وقتا طويلا وأننا يجب أن نردع الصدع الموجود في المجتمع ونكسر الفجوة الموجودة بين الشعب وجهاز الشرطة ونجعل الناس يثقون مجددا في جهاز الشرطة، ليبقى جهاز الشرطة في خدمة الشعب فعلا ولخدمة الشعب، ومن هنا يأتي احترام الشعب له وتقديره لضابط الشرطة، ضابط الشرطة يقوم بمهام خطيرة جدا ويقدّم تضحيات مهمة في أيّ مكان في العالم وليس فقط في مصر، إنّه قطاع خطر بطبعه، رجال الشرطة يعرضون حياتهم للخطر بالنزول إلى الشارع فكيف بالمواجهة مع إرهاب يريد تدمير البلد تماما، حسناً، كيف نقوم بهذه الموازنة؟ أريد أن أجعل الضابط يكون قادراً على النزول إلى الشارع وحسم أمره هناك لكن في نفس الوقت علينا كمجتمع أن نشعره بأنّ عليه رقيباً وأن هناك من يحاسبه وأنه إذا أساء استخدام السلطة أو استخدم قوة مفرطة أو عذب.. هذه ليست مساءلة قانونية أو أخلاقية. هذا يعرض أمن المجتمع وأمن البلد للخطر على المدى الطويل، هو يمكن أن يكسب جولة في صراعه مع ما يسمى بؤرة إرهابية أو مع حقوقي يريد أن يلقنه درساً أو أكاديمي يجب أن يتعظ، لكن هذا يقوض من دعائم الأمن المجتمعي على المدى الطويل ونحن لسنا لا نملك ترف إضاعة هذا الأمن في لحظة نواجه فيها خطر الإرهاب. فالتعذيب برأيي لا يعني الخاصّة ولا النخبة بل التعذيب في النهاية يمسّ قطاعات كبيرة من الشعب وأكثر ضحاياه من الفقراء وهؤلاء الناس ليس لديهم من يتكلم بلسانهم ولا يعرفون كيف يصيغون مطالبهم بشكل قوي، هؤلاء من يجب أن ننتبه لهم وهؤلاء هم الضحايا الحقيقيون للتعذيب وليس الحقوقيين ولا السياسيين. طبعا أنا ضد التعذيب بكل الأشكال لكنّني كنت أريد فقط أن أوضح للذين يقولون إن الفقراء مهتمون بالاقتصاد ومهتمون بأكلهم وبمستوى معيشتهم ولا تعنيهم قضية التعذيب أنّ في هذه النظرة احتقاراً وتعالياً على الفئات المهمّشة التي تدفع بالفعل الثمن والتي تضم أكثرضحايا التعذيب، أولئك الذين في السجون وفي الثلاجات غير متهمين بقلب نظام الحكم ولا بكتابة مقال عن تطورات الأوضاع في سيناء إنما أغلبهم أناس لديهم دكاكين وأكشاك ويمشون في الشارع كافين الناس شرهم ويجلسون في المقاهي، مثل ضحية حادثة الأقصر، هؤلاء يسجنون بتهم واهية، وحتى لو كانت تهمهم حقيقية، إلّا أنهم يدخلون السجن ويحقق معهم ثم لا يخرجون إلا جثثاً.
.علي الرجّال: كان هذا لقاء شيقاً وأشكرك عليه. آخر شيء أريد معرفته، هو رؤيتك للوجهة التي ستتخذها الأمور في مصر في المستقبل القريب
خالد فهمي: نحن نمرّ في لحظة صعبة دون شك، في كامل المنطقة، ما يحصل في سوريا وليبيا وكل الدول المتاخمة لنا تجعلنا ندرك أن هذه لحظة صعبة، وأنا كدارس للتاريخ، في الأمس ختمت لطلابي المقرر حول تداعيات الحرب العالمية الاولى وطلبت من طلابي أن يحاولوا تخيّل وضع السكان في سوريا أو في ليبيا أو في دمشق أو في القاهرة أو بيروت أو في عمّان أو في بغداد سنة 1919 وسنة 1920 وسنة 1921 عندما كان لديهم تطلعات وآمال كبيرة جدا ثمّ انتهى بهم الحال إلى أن رأوا مجتمعاتهم وبلادهم تمزقت وقطعت وإلى أن بات يولّى عليهم أناس، سواء في مصر أو العراق أو الأردن، لا يثقون بهم، وإلى أن عاد مستقبلهم السياسي رجع سنوات الى الوراء، وإلى أن انهار المجتمع العثماني الذي كان يعرفونه منذ قرون طويلة. طلبت من الطلاب أن يتخيّلوا مقدار الهلع الذي شعر به الناس حينها. أظنّ أن هذا ما نشعر به الآن. هناك من يقول إنه خائف، وأنا خائفٌ أيضاً لأنّي لا أملك الثقة في أنّ النهج الذي تتبعه حكومتنا سيوصلنا إلى برّ الأمان. أنا أرى أنّ الأزمة آخذة في التعمّق وأنّ وراء قشور الاستحقاقات الدستورية الثلاث واستتباب الأمن يعاني المجتمع من مشاكل كبيرة. حالة الاستقطاب التي نمرّ بها عميقة وخطيرة. تشرذم المجتمع ليس صحّياً أبداً. غلق المجال السياسي بهذا الشكل يؤدّي إلى إيهام الناس بأنّ الأوضاع قد هدأت في حين أنّ الأمر أكثر خطورة وأنّ ما وراء السطح هو أننا نخشى مشاكل عميقة وخطيرة، لكنّ ما يطمئنني ويعطيني الأمل هو- دون مبالغة أو رومانسية- الأجيال الجديدة التي أتعظ منها وتلهمني بالفعل. لا يمرّ يومٌ أقرأ فيه الصحف المصرية أو أراقب الفايسبوك أو أتابع الأخبار الآتية من مصر إلّا وأنبهر. في رأيي، ما أبان عنه هذا الجيل من مهارات أقوى وأكبر وأعمق وأهم من كلّ ما تقوله الحكومة، وأنا أراهن على هذا الجيل. أبناء هذا الجيل يشعرون بالطبع أنّهم مستبعدون، وهذا حقيقي، فالدولة لا تخاطبهم بل تستبعدهم وتخونهم وتحتقرهم ولا تعطيهم أيّ أمل بمستقبل يمكن أن ينعموا فيه بوظائف محترمة وبحياة كريمة وبحقوق مستتبة لا ينتهكها أحد. أنا متعاطف مع أبناء هذا الجيل لكنّني أرى فيما يكتبونه، فيما يفكّرون به، في حراكهم، في الأفلام التي يصنعونها وفي المسرحيات التي ينتجونها وفي الموسيقى التي يبدعونها، في الحراك السياسي الذي تحقق على مدار السنوات الخمس الفائتة أن هذا الجيل، رغم الكبوة، يمكن الرهان على قدراتهم. هذا هو الجيل القادر على إخراجنا مما نحن فيه وأنا بالفعل أستلهم في كل كتاباتي هذا الجيل وأنتظر منه حلولاً حقيقية.
لكن يجب أن تعطى له الفرصة أولاً.
.علي الرجّال: أشكرك دكتور خالد على هذا الحوار لمجلة الوضع الصوتية